ليلة امس بعث لي صديق يهودي من سكان مدينة فاس مقال عن المحرقة و اعراضها على احتلال فلسطين، للكاتب خ.د على صفحة "تعايش"...
في كل الاحوال، الكاتب الاسرائيلي، و الذي تعجبني قرائة افكاره، في مقاله، يتبت انه غير متفق مع قرار رئيس الوزراء الاسرائيلي على احتلال مناطق السلطة الفلسطينية، قرأت المقال باللغة الانجليزية فاعاد الى مذكرتي حادثة وقعت معي بمدينة حيفا شمال تل ابيب.
كان ذلك صيف 2013 حينما زرت فلسطين لأول مرة للتعرف على بلد الديانات المقدسة، فالتقيت صدفتا شايلي، و اللتي تعمل بمطعم خومُس "حُمص" و هو الذ مطعم
بالمنطقة...
صاحب المطعم فكر في طريقة رائعه من اجل نشر التسامح بين العرب و المستوطنين، لو واحد عربي جاب معاه مستوطن ياكلو مع بعض، يدفعو فقط نصف الثمن، فكانت شايلي خلصت من العمل و عزمتني على طبق حمص "و هو عبارة عن حمص مطحون مع القليل من زيت الزيتون" و "تشكشوكة" ما نسميه عندنا بالمغرب "بيض و ماطيشة"، تبادلنا جمل التقديم الشخصية، اخبرتها انني اسافر كثيرا و انني هنا للتعرف على الفلسطينيين و الاسرائيليين. بعدها قامت باخباري انها تتضامن مع العرب في اسرائيل، ترفض سياسة الحكومة تجاه الفلسطينيين، و تقدرني عاليا لأني احب السفر و لم تنس ان تخبرني بأنها ليست متزوجة.
كيف تتدبر امرك مع كل ما يكلف السفر من مصاريف ؟ سألت شايلي.
"تكفي التقه بالنفس و الارادة الجيدة. بعض الاحيان احصل على منحة جامعية و أخرى على منحة مالية من جمعيات خيرية. ثم اكتفي بخيمتي للنوم لا احتاج للفندق، في كل الاحوال اتدبر اموري" اجبت.
دعني ادعوك لقضاء الليلة ببيتي، عندي غرفة للضيوف، و الوضع السياسي الحالي بهدا البلد لا يسمح بالنوم بالخيمة، لا اخفيكم انني كنت غنطير من الفرحة فلطالما تمنيت ان اتعرف على يهود اسرائيل، ان استمع لرأيهم حول قضية هذا البلد، حول الصراع، علاقتهم بعرب 48 علاقاتهم الاجتماعية... قبلت الدعوة و الابتسامة مرسومة على وجهي.
كان ذلك يوم جمعة مساءً، و يعتبر لدى اليهود المتزمتين عيدا لا يستطيعون خلاله العمل، لكن شايلي كانت علمانية، و كان ذلك بالنسبة لي مربحا، بعد وصولنا للبيت و تجردي من حقيبتي اللتي كانت تزن اكثر من 15 كيلو، طلبت منها ان اجهز شاي مغربي و كعادتي لما اسافر لا يفارقني البراد المغربي و علبة حبوب الشاي و كيس من "اللويزة".
عمرت واحد الدكة من عاودش ليكم، وَ شحَّرتُه كما يجب...
امين حدثني عن المغرب. هل لك هناك خطيبة ؟
حدثتها بلغة انجليزية هشة و بجمل مخلوطة من الحين و الٱخر بمصطلحات فرنسية و عربية عن البلد الجميل. كيف يقضي الشباب هناك اوقاتهم، حول العلاقات الاجتماعية، حول الحياة الجامعية.
كان يبدو عليها و كأنها مسحورة حين كنت اتكلم بلغة هادئة، تقريرية و واثقة، مع انني كنت ابحث عن الكلمات الصحيحة بالانجليزية.
كانت تصغي باهتمام و تعلق من حين لاخر "واو نايس، جميل" كانت تثيرني للاستمرار في الحديث، و كنت اقص عليها حوادث و احاديث تثير المخيلة، حول الفن في المغرب، حول الاسلوب الفكري المريح، حول نمط الحياة الهادئ و المستقر. كانت تصغي و عيناها الزرقوان تبدوان حالمتين، فاستمريت على ذلك المنوال، بدا منها الحماس و الشغف، لكني اراهن ان مشاعرها تلك لم تترتب بسبب نظام الحياة بالمغرب، بل للجانب الرومنسي اللذي عرضته عن المغرب و لاسلوب حديثي. حدثت عن بساطة، كرم و جود الشعب المغربي.
حدثتها عن الأحبة و الحب في مدينة الصويرة، عن بساطة الحلايقية بساحة جامع الفنا بمراكش، عن جمال و انوثة الفتاة المغربية، عندما كنت اتحدث كنت ارى جمال المغرب في عيني شايلي.
بدت حالمة مصغية لحديثي، و هذا ما كان يحمسني على الاستمرار. رغبتْ بالاستماع حول العالم، نضام حياة يختلف عما اعتادت عليه في بلادها. <نايس، جميل> كانت تعلق من حين لاخر. كانت الليلة تتقدم و شايلي تصارحني بانها تشعر جيدا برفقتي و دعتني للذهاب الى النوم عند تعبي، لكنني فضلت قضاء قليل من الوقت برفقتها، و سالتها ان كانت ترغب بالخروج في اليوم المقبل...
"غدا بالضبط لا. يتوجب علي مشاهدة فيلم حول المحرقة".
"حول المحرقة ؟ لمذا يتوجب عليك مشاهدته ؟ انه رهيب ! لا يقدم لك شعورا جميلا، و من ثم فهي قضية قد عبرت. ليس سليما التذكر مرارا مأساة مرت" قلت لشايلي
فجأة غيرت شايلي تعبيرها. قطبت حاجبيها، اشتدت رموش عينيها، صغرت عيناها و صارت تنضر الي بتبات و صمت. و بدا على عضلاتها الانقباض و جسمها التجمد.
" لا، لا يمكن نسيان المحرقة. يا ويلنا نحن الشباب ان نسينا ما تحمل ٱباؤنا و اجدادنا. الويل لدولتنا ان اهملنا ماضينا. يجب علينا دائما تذكر المحرقة! حاضرنا هو تمرة تلك الحوادث الرهيبة. علينا ادراك تضحيات ابائنا لضمان هده الدولة لنا. ان نسينا المحرقة فلن ندرك اهمية حريتنا". اجابت شايلي و بدا منها التشبث في الرأي.
"لا اقصد النسيان بسبب الاهمال، لكنني اؤمن انه من اجل الوقاية الدهنية من المفضل ازاحة الحدث من الذاكرة.
اعلمي ان العالم تغير، حكمت الفاشية في المانيا مرة، و الان ليست موجودة. ما ذنب الماني اليوم حتى يتحملو اخطاء ابائهم ؟ في الوقت الذي تستمرين اشراط حريتك بذاك الحدث الرهيب يعني انك لست حرة".
لم ترغب شايلي بالاجابة و ضل الصمت في الغرفة لبضع دقائق، اخدت نفسا عميق ثم ابلغتها بحزني تجاه ما وقع في المحرقة و ما وقع من احتلال غاشم سنة 1948 و 1967 و ضلم فظيع سنة 1991، 2008 الى اليوم، ثم طلبت ادنها للدهاب الى غرفة الضيوف للنوم و نسيت رغبتي في الخروج معها في اليوم التالي.
صباح اليوم التالي، استيقضت و قد حَضَّرَتْ وجبة الفطور بشاي مغربي كما احب، ثم علقتْ بصوتها الرقيق...
"I'm sorry about last night... I really am"